كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تركنا الخيل عاكفة عليه ** مقلّدة أعنتها صفونا

والجياد: جمع جواد، وهو اسم غلب على الذكر من الخيل.. وأصله من الجودة.. والخير: هو الخيل.. وتسمى الخيل خيرا، لأنها مظهر من مظاهر النعمة، حيث لا يملكها إلا أصحاب الثراء والجاه، فحيث كانت الخيل كان الخير معها.. وفى الحديث: «الخيل معقود بنواصيها الخير» والآيتان الكريمان تحدثان عن حال من أحوال سليمان، وموقفه من الاشتغال بملكه وذكره لربه.
فهو- عليه السلام- إذ يستعرض الخيل، كبعض من سلطانه الذي بين يديه، أو كنعمة من نعم الملك الذي آتاه اللّه- إنه إذ يفعل هذا، وإذ يرى كثرة هذه الخيل المجراة بين يديه، بسرجها، ولجمها، يستعظم هذه النعمة، ويرى أنها شيء كثير، ما كان له أن يستكثر منه إلى هذا الحد، وأن يحفل به إلى هذا المدى، وأنه لو استكثر من ذكر اللّه، وأعطى لهذا الذكر ذلك المجهود الذي بذله، في انتقاء هذه الخيل، وفى استجلاب كرائمها من كل أفق- لو أنه فعل هذا لكان أولى، وأجدى.
ولهذا، فإنه عليه السلام، ما إن يرى هذه الخيل تطلع عليه في جمالها وروائها وروعة منظرها، حتى يلقى نفسه بهذا اللوم: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي}! أي لقد آثرت حبّ الخير الدنيوي، على ذكر ربّى.. فهذا الحب للخيل، هو شهوة متمكنة في النفس، وهو فتنة من فتن الدنيا، كما يقول سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}. وللخيل في ذاتها شهوة كشهوة المال، ولها في النفوس موقع لا يعرفه إلا من عرف الخيل وشغف بها، وخاصة في حياة البادية، التي ترى الخيل فيها وجها من وجوه الجمال والحسن، في هذه المواقع المجدبة المكفهرة التي لا يلمح فيها الحسن إلا لمحات خاطفة.
وهذا ما تحدثنا به الحياة العربية- وخاصة في الجاهلية- وما كان للخيل فيها من علقة بالنفوس، وهوى في الأفئدة، حتى لقد عرفت الخيل بأسمائها، كما يعرف الأبطال، ومشاهير الفرسان. وحتى لقد كان للخيل أنساب كأنساب القبائل والعشائر، وحتى لقد وسعت اللغة العربية من الكلمات في أوصاف الخيل، وفى وصف كل عضو من أعضائها، وكل شية من شياتها- ما لم يكن يجتمع لشىء آخر غيرها من حيوان أو إنسان.. ولهذه العناية العظيمة بشأن الخيل عند العرب والاحتفاء بها، كان ذلك النتاج العربي من كرائم الخيل وأصائلها، والتي لا تزال محتفظة بمكانها فيه، فوق عالم الخيل إلى اليوم.
وفى الشعر العربي ديوان كبير، يتمدح فيه الشعراء بالخيل، ويتغنون بها، ويكشفون عن مشاعرها، وأحاسيسها في الحرب، وفى السلم.. كما نرى في شعر عنترة، وعمرو بن كلثوم، وامرئ القيس وغيرهم.
يروى أن عربيا كان يملك فرسا اسمها سكاب وكانت من كرائم، الخيل.. وقد سامه أحد أصحاب السلطان أن يشتريها منه، أو أن يهبها له، إن ضنّ يبيعها، وارتفع بقدرها عن أن تنزل منازل السلع، فلم يجد العربي بدّا من أن يدفع هذا المكروه، متلطفا متوسلا بقصيدة يقول فيها:
أبيت اللّعن إن سكاب علق ** نفيس لا يعار ولا يباع

مفدّاة مكرمّة علينا ** نجاع لها العيال ولا تجاع

فحبّ سليمان عليه السلام للخيل، هو من هذا الحبّ، خاصة وهو مولود في بيت ملك، تربّى من صغره على الفروسية.
ونعود إلى القصة فنقول: إن سليمان- عليه السلام- إذ يقول هذا القول: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي}. إنما هو مراودة بينه وبين نفسه، وخاطر من خطرات اللوم يدفع بها الزهو والعجب عنه، وهو مواجهة هذه الفتنة، ثم هو مع هذا يمضى فيما هو فيه، ولا يقطع مراسم هذا الحفل العظيم الذي احتشد له رؤساء القوم وسادتهم في هذا الاستعراض العظيم لجيشه مشاة وفرسانا.. وإنه لا بأس من أن يمضى فيما هو فيه الآن، ثم ليكن له بعد هذا حساب مع نفسه، وتدبير فيما يكون منه في شأن هذه الخيل وغيرها، مما يشغل منه وقتا يقطعه فترات عن ذكر اللّه، بالاشتغال بهذا المتاع.
وهكذا ظل- عليه السلام- يستعرض الخيل، حتى دخل الظلام، فتوارت عن نظره بالحجاب، أي حجاب الظلام.. فلم يعد يرى ملامحها، ويتحقق من شياتها، وما ينكشف لعينيه من أعضائها، التي تعطى الصفة الملاءمة لكل جواد منها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ} أي أنه- عليه السلام- ما زال ينظر إليها، ويستعرض بعينه تناسب أعضائها، وتناسق ينائها، حتى توارت عنه بهذا الحجاب الذي أرخاه الليل عليها، إذ أن عرضها عليه قد كان في أخريات النهار، كما يقول اللّه تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ}.
هذا، ولم يكن- عليه السلام- قد فرغ من الأمر الذي قصد إليه من هذا العرض للخيل، وهذا هو حجاب الظلام يحول بينه وبين تفرسها بعينيه، إذ كان العرض في أخريات النهار بالعشي.. فماذا يفعل؟
لقد أراد القائمون على أمر هذا الاستعراض من حاشيته، أن يؤجّلوا ذلك إلى يوم آخر، وأن يذهبوا ببقية الخيل التي لم تعرض إلى مرابطها.. وربما همّ الرجال بهذا فعلا، بل وربما مضوا في تنفيذه- بعد أخذ موافقته ضرورة- ولكن سرعان ما بدا له أن ينتهى من هذا الاستعراض في مجلسه هذا، حتى لا يعود إلى هذه الفتنة من غد.. فقال وقد أخذت الخيل طريقها إلى مرابطها: {ردّوها علىّ} فلما ردت إليه، أخذ يتحسسها سريعا بيديه، بالمسح بيديه على سوقها وأعناقها {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ}.. وأعراف الخيل، وأرجلها- وخاصة سيقانها- هي المواضع التي تنمّ عنها، وتحدّث عن مكانها من الأصالة والجودة.. وفى هذا يقول امرؤ القيس في وصف جواده:
له أيطلا ظبى وساقا نعامة ** وإرخاء سرحان وتقريب تتفل

والأيطل: الكفل، وهو أعلى الفخذ.. والسرحان الذئب، والتتفل: ولد الظبى.
فامرؤ القيس يصف ساق جواده بالضمور، وعدم الامتلاء، ويشبهه بساق النعامة في دقته، وتجرده من اللحم. على حين يشبّه كفله بكفل الظبى في الامتلاء باللحم..!
ونلخص مضمون القصة فنقول:
إن سليمان- عليه السلام- استعرض ما يملك من خيل، وكان ذلك في أخريات النهار، فلما طلعت عليه، هالته كثرتها، وكثرة ما تتزين به من سروج وقلائد، ولجم، فوقع في نفسه، أن هذا حصيلة جهد كبير، بذله في هذا الوجه، وأنه كان الأولى به أن يصرف جهده هذا في ذكر اللّه.
وقد حدثته نفسه أن يردّ الخيل على أعقابها، وأن يلغى هذا الاحتفال، ولكن وجد أن ذلك قد يثير كثيرا من الأقاويل والشائعات، وأنه ربما يبلغ أعداءه عنه أنه انصرف عن اقتناء الخيل أو زهد فيها، وهى أقوى عدد الحرب يومئذ، فتحدثهم أنفسهم بحربه، ويجدون الجرأة على قتاله، فرأى لهذا أو لغيره أن يمضى فيما هو فيه، وكان الليل قد أرخى حجابه قبل أن يفرغ من استعراض الخيل، وكان من التدبير أن يؤجل بقية العرض إلى يوم آخر، ولكنه- لأمر دبره لنفسه- رأى أن يفرغ من هذا العرض، وأن يستعمل يديه في التعرف على الجياد من هذه الخيل، وذلك بإمرار يديه على المواضع التي تدل على الجودة أو الرداءة منها، كل ذلك في سرعة نراها في قوله تعالى: {فَطَفِقَ} الذي يدل على الاستمرار مع التدفق والجريان للفعل.
أما الأمر الذي دبره سليمان عليه السلام في نفسه بإنهاء هذا العرض في هذا المجلس، فهو أن يأخذ نفسه بسياسة غير تلك السياسة التي كان يصرف فيها هذا الجهد باقتناء الخيل، والاحتفاء بها، وأن يجعل ذكر اللّه همّه وأن يفرغ فيه جهده، وأن يستغفر لما كان منه من تقصير أو تفريط في جانب ذكره لربه.
هذه هي قصة الخيل.. ولها ذيول سنعرض لها فيما بعد.. بعد أن نفرغ من قصة الكرسي والجسد الملقى عليه.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنابَ}.
هذه الآية هي إشارة إلى هذه الفتنة التي فتن بها سليمان، وهو اشتغاله بهذا المتاع من الخيل، وحشد هذا الجهد منه ومن حاشيته، ورعيته في سبيله.
ففى قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى قد فتنه بهذا المتاع الكثير، الذي ساقه إليه.. وأن هذا المتاع كان عبئا ثقيلا على {كرسيه} أي سلطانه، الذي كان ينبغى أن يكون مكان النبوة فيه أبرز وأظهر من مقام الملك.. وهذا هو السر في كلمة {جسدا} الذي يمثل المتاع الدنيوي الذي يضمه هذا الملك.. إن كرسى سليمان قد ثقل فيه ميزان الملك، وكاد يجور على المكان الذي ينبغى أن يكون للنبوة فيه، الحظّ الأوفر، والنصيب الأوفى!.
ويجوز أن يكون قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} بمعنى وألقيناه على كرسيه جسدا، فيكون جسدا حال، بمعنى كائنا جسدا.. على حين أن روحه قد زايله في تلك الحال، فرأى- من عالم روحه- وجوده الجسدى قائما على الكرسي، ملتصقا به.. وهذا ما يعرف في الروحية الحديثة باسم الطرح الروحي حيث تستطيع بعض الأرواح أن تنفصل عن أجسادها في حال اليقظة، فيرى الإنسان بروحه عوالم كثيرة بعيدة، ويشهد من وراء حجب المادة الكثيفة ما يشهده عن قرب وعيان.. ومما يشهده في حاله تلك، وجوده الجسدى.
وقد يكون سليمان- عليه السلام- رأى في حال من أحوال الطرح الروحي، ذاته الجسدية على كرسى ملكه، على حين رأى ذاته الروحية بعيدة عن هذا الكرسي، فأنكر مقامه على هذا الكرسي وهو على تلك الحال التي انفصلت فيها أو كادت تنفصل عنه النبوة!.
ولقد لفتنى إلى هذا المعنى الأستاذ العالم الأديب محمد شاهين حمزة، الذي ينفق من ذخائر علمه ويسعى بها إلى طلاب العلم، حاملا عنهم مشقة الطلب والسعى.. فجزاء اللّه عن العلم وأهله خير ما يجزى العالمين العاملين.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ أَنابَ} إشارة إلى معطوف عليه محذوف.
تقديره: فشغل سليمان وقتا ما بهذا المتاع أي الجسد الذي ألقى على كرسيه.
{ثم أناب}.
أي رجع إلى ربه، وصحح هذا الوضع الذي صار إليه {كرسيه}.
فأفسح للنبوة فيه مكانها، وأعطاها كل حقها.
واقرأ الآية الكريمة: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنابَ}.
تجد مفهوما واضحا لكلمات اللّه على هذا التأويل الذي تأولناها عليه.
ثم تجد للعطف بثم مكانا مكينا في الآية، حيث أن هذه الإنابة قد جاءت متراخية زمنا ما، كان لابد منها لجمع هذه الأعداد الكثيرة من أصائل الخيل وجيادها، وما يتصل بها من عدد وفرسان.
قوله تعالى: {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.
هو بيان لإنابة سليمان إلى ربه، وأن إنابته هي قوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ولهذا لم يفصل بين الفعلين أناب وقال بفاصل ما، من حرف عطف، أو نحوه.
وقد قرن سليمان في إنابته إلى اللّه سبحانه- قرن طلب المغفرة بهبة هذا الملك الذي لا يكون لأحد من بعده! وفى هذا ما يشير في وضوح إلى أن ما طلبه من أن يهب اللّه له هذا الملك الذي لا ينبغى لأحد من بعده- فيه إشارة واضحة إلى أن هذا هو ما يصحح إنابته إلى ربه، ويجعلها إنابة سليمة، خالية من كل معوق يعوقها عن اللّه! فكيف هذا؟ وهل بهذا الملك العجيب الذي لا يملكه أحد من بعده يكون أقرب إلى اللّه منه وهو على كرسى ملكه الذي هبت عليه منه ريح الفتنة؟
وهل كان ما كان منه من اشتغال- أكثر مما ينبغى- عن ذكر ربّه، إلا من الملك، وسلطان الملك وما يحف به من شهوات؟
فكيف يكون طلب هذا الملك الذي لم يكن لأحد غيره- إنابة ورجوعا إلى اللّه، وتخففا من الاشتغال بالملك؟
ندع هذا الآن.. وننظر فيما أجاب به اللّه سبحانه وتعالى هذا الطلب.
يقول اللّه تعالى: {فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ} هذا هو ما أجاب به اللّه سبحانه، سليمان فيما سأل.. وقد جاءت الإجابة في غير مهل.. دعاء فإجابة.. وهذا يدل على ذلك الرضا العظيم من اللّه سبحانه عند عن هذا الذي أقبل عليه بقلب سليم، منيبا إليه، طامعا في رحمته ومغفرته! ولابد من وقفة هنا:
فأولا: لقد أقام اللّه سبحانه سليمان في منصب الملك، كما أقامه في منصب النبوة.. فهو- بتكليف من اللّه سبحانه- ملك ونبىّ معا.
وثانيا: لقد جرب سليمان الحياة مع الملك والنبوة، فوجد سلطان الملك يكاد يطغى على مقام النبوة.. ولقد رأى رأى العين كيف شغلته الخيل عن أن يؤدى للنبوة حقها، وأن يذكر اللّه ذكر الأنبياء، ووقف من نفسه موقف اللائم المؤنب، فيقول لها: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي}! وثالثا: بعد هذا العرض للخيل الذي رأى فيه سليمان وجه الفتنة كالحا مخيفا، يهجم على نبوته ويكاد يحتويها، رأى في هذا الملك خطرا يتهدد نبوّته إن هو ظل قائما عليه، ممسكا به، ثم رأى- من جهة أخرى- أنه ملك من قبل اللّه، كما هو نبىّ من عند اللّه، وأنه لا سبيل له أن يخلى يده من هذا الملك.
إنه ملك ونبىّ معا.
ورابعا: لابد إذن أن يكون سليمان ملكا، وقد رأى ما يسوق إليه الملك من فتنة.. فليكن إذن ملكا، ولكن ليكن هذا الملك على صورة غير هذا الملك الذي تجىء منه الفتن.!
وخامسا: في طلب سليمان تغيير صفة هذا الملك، نراه يقول: {هَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}.. إنه ملك، ولكنه على غير ما يملك الملوك، مما على هذه الأرض.. إنه ملك لا تجىء منه هذه الفتن التي، لا يملك دفعها الملوك، حتى الأنبياء..!
وأين هذا الملك الذي يكون على هذه الصفة؟.
إن سليمان لا يعرفه، ولهذا طلب إلى اللّه سبحانه أن يهبه إياه، وهو سبحانه لا يعجزه شىء، وهو سبحانه وهاب لا تقف هبانه عند حدود أو قيود! {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.
وسادسا: وجاء الملك الذي طلب سليمان!: {فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ}.
هذا هو ملك سليمان الجديد.. وهو ملك عجيب حقا.. إنه ليس جسدا. وليس فيه من عالم الجسد شىء.. ريح يمتطيها كما يمتطى الخيل.
وهى مطاياه التي أقامها اللّه سبحانه وتعالى له مقام الخيل بعد أن زهد فيها، وصرف نفسه عنها ابتغاء مرضاة اللّه.. فكان الجزاء الحسن من جنس العمل الحسن.. أضعافا مضاعفة.
ثم كان جنود من عالم الجن، يعملون له بدلا من عالم الإنس..!